المدونة

الكلمة الثالثة: من مشاهد القيامة (الحشر وأهواله)

الكلمة الثالثة: من مشاهد القيامة (الحشر وأهواله)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

فمن أعظم أهوال يوم القيامة التي يجب على المؤمن الإيمان بها والاستعداد لها موقف الحشر. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِين (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُوم (٥٠)} [الواقعة: ٤٩ - ٥٠]. وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيم (٢٥) [الحجر: ٢٥]. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُود (١٠٣)} [هود: ١٠٣].

والله عزَّ وجلَّ يحشر الناس ويجمعهم ليوم القيامة سواء من كان منهم في قبره، أو أكلته السباع، أو احترق، أو غرق في البحار، أو مات بأي ميتة كانت، قال تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا (١٤٨)} [البقرة: ١٤٨]. وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (٨٢)} [يس: ٨٢].

والله عزَّ وجلَّ يحشر الخلائق جميعاً لا ينسى منهم أحداً، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)} [مريم: ٦٤]. وقال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٤٧)} [الكهف: ٤٧]. وقال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤)} [مريم: ٩٣ - ٩٤].

وهذه النصوص تدل على حشر الخلائق جميعاً الجن والانس والبهائم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما البهائم فجميعها يحشرها الله سبحانه كما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون (٣٨)} [الأنعام: ٣٨]. وقال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَت (٥)} [التكوير: ٥]. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير (٢٩)} [الشورى: ٢٩]. وحرف إذا إنما يكون لما يأتي لا محالة(١).

ويحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً أي غير مختونين كما ولدتهم أمهاتهم. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: سمعت النبي صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ قَالَ صلى اللهُ عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ! الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ»(٢).

وكل إنسان يُبعث على الحال التي مات عليها من التقوى والإيمان والكفر والعصيان، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ»(٣).

وفي الحديث: «الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ مُحرِمٌ يُبعَثُ يَومَ القِيَامَةِ مُلَبِّياً»(٤)، وَ «الشَّهِيدُ يُبعَثُ يَومَ القِيَامَةِ وَجَرحُهُ يَثعَبُ، اللَّونُ لَونُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسكِ»(٥).

والحشر مواقف:

فمن ذلك أن الكفار يحشرون على وجوههم، قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّاوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (٩٧)} [الإسراء: ٩٧]. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ! »(٦).

ومن ذلك أن الناس يُحشرون على طرائق. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنفٌ مُشَاةٌ، وَصِنفٌ رُكبَانٌ، وَصِنفٌ عَلَى وُجُوهِهِم»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِم؟ وَقَالَ عَفَّانُ: يَمْشُونَ - قَالَ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُم عَلَى أَرْجُلِهِم قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُم عَلَى وُجُوهِهِم، أَمَا إِنَّهُم يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِم كُلَّ حَدَبٍ وَشَوكٍ»(٧).

ومنها أن المتقين يُحشرون على أحسن مركب. قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦)} [مريم: ٨٥ - ٨٦]. أي عطاشاً، وقال جمع من المفسرين: إنهم يُحشرون - أي المتقين - على الإبل النجائب تكريماً لهم، ويُحشر الناس يوم القيامة على أرض غير هذه الأرض. قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار (٤٨)} [إبراهيم: ٤٨].

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سهل ابن سعد رضي اللهُ عنه قال: سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ(٨)، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ» قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ: «لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لأَحَدٍ»(٩).

وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن الوقت الذي تبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات هو وقت مرور الناس على الصراط. روى مسلم في صحيحه من حديث ثوبان رضي اللهُ عنه أن حبراً من أحبار اليهود سأل الرسول صلى اللهُ عليه وسلم فقال: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ»(١٠).

ومن آثار الإيمان بهذا الحدث الغيبي العظيم:

أولاً: أن الله أخبر عباده بأهوال هذا اليوم - وهم في الدنيا - ليعلموا ما هم صائرون إليه، وليكونوا على بينة من أمرهم، وليستعدوا لذلك ويحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، قال أحدهم:

وَلَو أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا

لَكَانَ المَوتُ غَايَةَ كُلِّ حَيٍّ

وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا

وَنُسأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيءٍ

وصدق الله إذ يقول: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد (٣٠)} [آل عمران: ٣٠].

أما المجرمون فيقولون: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا (٤٩)} [الكهف: ٤٩].

ثانياً: أن الناس يذهلون من هول المحشر عن كل شيء. قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيه (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيه (٣٧)} [عبس: ٣٤ - ٣٧]. وقال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧)} [المزمل: ١٧].

ثالثاً: قدرة الله العظيمة على جمعهم وحشرهم في صعيد واحد ومحاسبتهم. قال تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير (٢٩)} [الشورى: ٢٩]. وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر} [القمر: ٥٠].

رابعاً: في يوم الحشر تظهر حقيقة الدنيا لأهلها وحقارتها. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين (٤٥)} [يونس: ٤٥]. وقال عن المجرمين: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ عَشْرًا (١٠٣)} [طه: ١٠٢ - ١٠٣].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١) مجموع الفتاوى (٤/ ٢٤٨).

(٢) برقم ٦٥٢٧ وصحيح مسلم برقم ٢٨٥٩ واللفظ له.

(٣) برقم ٢٨٧٨.

(٤) رواه البخاري في صحيحه برقم ١٨٥١ وصحيح مسلم برقم ١٢٠٦.

(٥) رواه البخاري في صحيحه برقم ٥٥٣٣ وصحيح مسلم برقم ١٨٧٦.

(٦) برقم ٤٧٦٠ وصحيح مسلم برقم ٢٨٠٦.

(٧) (١٤/ ٢٨٩) برقم ٨٦٤٧ وقال محققوه حسن لغيره، قوله: صنف مشاة، وصنف ركبان، قال السندي: هم أهل الإيمان عوامه وخواصهم. يتقون بوجوههم كل حدبٍ، الحدب بفتحتين الغليظ المرتفع من الارض، أي يجعلون وجوههم مكان الأيدي والأرجل في التوقي عن مؤذيات الطرق، وقد غلت أيديهم وأرجلهم، وذلك لما لم يجعلوها ساجدة لخالقها.

(٨) عفراء: قال الخطابي العفر بياض ليس بناصع، وقال ابن فارس: معنى عفراء خالصة البياض، والنقي: أي الدقيق النقي من الغش والنخالة، والمعلم: هو العلامة التي يهتدي بها إلى الطريق كالجبل والصخرة، فتح الباري (١١/ ٣٧٥).

(٩) برقم ٦٥٢١ وصحيح مسلم برقم ٢٧٩٠.

(١٠) برقم ٣١٥.