المدونة

الكلمة السابعة والعشرون: البكاء من خشية الله

الكلمة السابعة والعشرون: البكاء من خشية الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

فإن البكاء من خشية الله دليلٌ على إيمان العبد وخوفه من الله، قال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (١٠٩)} [الإسراء: ١٠٧ - ١٠٩]. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (٥٨)} [مريم: ٥٨].

وقد أثنى الله على المؤمنين أصحاب القلوب الرقيقة، الذين لا يملكون أنفسهم من الدمع عند سماعِ آياتِ الرَّحمنِ، أو خوفِ فواتِ عملٍ صالحٍ يُحِبُّونَهُ، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين (٨٣)} [المائدة: ٨٣].وقال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَاّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُون (٩٢)} [التوبة: ٩٢].

والبكاء من خشية الله سببٌ للاستظلال بعرش الرحمن، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ - ذَكَرَ منْهُم: - وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»(١).

والبكاء من خشية الله من أحب الأعمال إلى الله، روى الترمذي في سننه من حديث أبي أمامة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ، قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ»(٢).

والبكاء من خشية الله سببٌ للنجاة، روى الترمذي في سننه من حديث عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ»(٣).

والبكاء من خشية الله من أسباب التحريم على النار، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ»(٤). فقوله: «لَا يَلِجُ»: أي لا يدخل، «حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ»: كناية عن استحالة ذلك.

من أسباب البكاء من خشية الله:

١ - ذكر الموت: روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ - يعني الْمَوْتَ -»(٥). فإذا ذكر المؤمن الموت رقَّ قلبه، ودمعت عينه، وزهد في دنياه.

٢ - قراءة القرآن بتدبر، والاستماع إليه بخشوع: روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن الشِّخِّير رضي اللهُ عنه قال: «رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ البُكَاءِ»(٦). وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي اللهُ عنهما قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «اقْرَا عَلَيَّ القُرآنَ»، قَالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فَقَرَاتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (٤١)} [النساء: ٤١]، رَفَعْتُ رَاسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَاسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ(٧).

٣ - زيارة القبور، وتذكر الآخرة: روى الحاكم في المستدرك من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا، فَإِنَّهُ يَرِقُّ القَلْبُ، وتَدّْمَعُ العَينُ، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا»(٨).

وروى ابن ماجه في سننه من حديث البراء رضي اللهُ عنه قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: «يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا»(٩). فإذا كان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يبكي حتى تبل دموعه الثرى وهو سيد الأولين والآخرين، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بنا نحن المذنبين المقصرين؟ نسأل الله تعالى أن يعاملنا بعفوه ولطفه.

وروى الترمذي في سننه من حديث هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ»، قَالَ: وسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ»(١٠).

٤ - التباكي: وهو منزلة دون البكاء وهو مجاهدة النفس في البكاء، قال ابن القيم رحمه الله بعد ذكره أنواع البكاء: «وما كان منه مستدعًى متكلفاً وهو التباكي، وهو نوعان: محمود ومذموم، فالمحمود يُستجلَبُ لرقة القلب وخشية الله لا للرياء والسمعة، والمذموم: أن يجتلب لأجل الخلق، وقد قال عمر بن الخطاب للنبي صلى اللهُ عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر: «أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا»، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيهِ صلى اللهُ عليه وسلم»(١١)»(١٢).

ولعل من أعظم أسباب جفاف العين، وعدم البكاء من خشية الله قسوة القلب، وما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب، بل ما خُلِقَتِ النار إلا لإذابة القلوب القاسية، قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين (٢٢)} [الزمر: ٢٢].

فعلى العبد أن يُذيب هذه القسوة بذكر الله، وزيارة القبور، وتذكر الموت والآخرة وأهوالها(١٣).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١) برقم ١٤٢٣ وصحيح مسلم برقم ١٠٣١ وقال الحافظ في الفتح (٢/ ١٤٤) وعند سعيد بن منصور بإسناد حسن عن سلمان رضي اللهُ عنه سبعة يظلهم الله في ظل عرشه.

(٢) برقم ١٦٦٩ وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (٢/ ١٣٣) برقم ١٣٦٣.

(٣) برقم ٢٤٠٦ وقال الترمذي هذا حديث حسن.

(٤) برقم ١٦٣٣ وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

(٥) برقم ٢٣٠٧ قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب.

(٦) برقم ٩٠٤ وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (١/ ١٧٠) برقم ٧٩٩.

(٧) برقم ٤٥٨٢ وصحيح مسلم برقم ٨٠٠ واللفظ له.

(٨) (١/ ٧١١) برقم ١٤٣٣ وقال محقق المستدرك حديث حسن صحيح وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم ٤٥٨٤.

(٩) برقم ٤١٩٥ وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم ٣٣٨٣.

(١٠) برقم ٢٣٠٨ وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (٢/ ٢٦٧) برقم ١٨٧٨.

(١١) صحيح مسلم برقم ١٧٦٣.

(١٢) زاد المعاد (١/ ١٧٨).

(١٣) انظر رسالة أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي «البكاء من خشية الله»، فقد أجاد وأفاد.