المدونة

الكلمة الحادية والثلاثون: بِرُّ الوالدين

الكلمة الحادية والثلاثون: بِرُّ الوالدين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

فإن بِرَّ الوالدين من أعظم الفرائض والواجبات، ولذلك قَرَنَهُ الله بعبادته وحده لا شريك له، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: ٣٦]، وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤)} [الإسراء: ٢٣ - ٢٤].

وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن بِرَّ الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن مسعود رضي اللهُ عنه قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قُلتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قُلتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(١).

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن عمرو رضي اللهُ عنهما قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَاسْتَاذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ » قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»(٢).

وفي رواية لأبي داود عنه قال: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: «ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا»(٣).

قال جمهور العلماء: «يحرم الجهاد إذا امتنع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن»(٤). اهـ.

والوالد أوسط أبواب الجنة، روى الترمذي في سننه من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ»(٥).

وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم بخسارة من أدرك أبويه عند الكبر فلم يدخلاه الجنة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ»، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»(٦).

وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ عن أنبيائه أنهم كانوا بررة بوالديهم، قال تعالى عن نبي الله يحيى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (١٤)} [مريم: ١٤]، وقال تعالى عن نبي الله عيسى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢)} [مريم: ٣٢].

والأم لها أعظم الحقوق بعد حق الله ورسوله، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} وبيَّن العلة في ذلك حثًّا للأولاد على الاعتناء بهذه الوصية، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي ضعفاً على ضعف، ومشقة على مشقة في الحمل، وعند الولادة، ثم حضنه في حجرها وإرضاعه قبل فطامه، فقال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير} [لقمان: ١٤](٧).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللهُ عليه وسلم فقال: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ»(٨).

وروى النسائي وابن ماجه في سننهما من حديث معاوية ابن جاهمة رضي اللهُ عنه: «أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنتُ أَرَدْتُ الجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ ! »، قلت: نعم، قال: «ارْجِعْ فَبِرَّهَا .. » وفي آخر الحديث قال: «وَيْحَكَ الزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الجَنَّةُ»(٩).

ولقد أوصى الله تعالى بصحبة الوالدين بالمعروف، وإن كانا كافرين، فقال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (١٥)} [لقمان: ١٥]، وفي الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي اللهُ عنهما قالت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم، قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ»(١٠).

ومهما قدم الولد من إحسان فلا يستطيع رد جميل الوالدين، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ»(١١).

ورضا الله في رضا الوالدين، روى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن عمرو رضي اللهُ عنها أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ»(١٢).

وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر لما فيه من عدم الوفاء ونكران الجميل، ويكفي أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قرنه بالشرك، وهو أعظم الذنوب، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي بكرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» ثَلَاثًا؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُول اللهِ، قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»(١٣).

وعقوق الوالدين سبب لدخول العبد النار، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أُبَيِّ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ مِن بَعدِ ذَلِكَ، فَأَبعَدَهُ اللهُ وَأَسحَقَهُ»(١٤).

«وبر الوالدين يكون ببذل المعروف، والإحسان إليهما بالقول، والفعل، والمال، أما الإحسان إليهما بالقول: بأن يخاطبا باللين واللطف مستصحباً كل لفظ يدل على اللين والتكريم، وأما الإحسان بالفعل، بأن تخدمهما ببدنك ما استطعت من قضاء الحوائج، والمساعدة على شؤونهما، وتيسير أمورهما، وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك أو دنياك، ثم الإحسان بالمال بأن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه طيبة به نفسك، منشرحاً به صدرك، غير متبع له بمنة، بل تبذله وأنت ترى أن المنة لهما في قبوله والانتفاع به»(١٥).

ومن بر الوالدين بعد موتهما: الدعاء لهما، قال تعالى عن نبي الله نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: ٢٨] روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»(١٦).

ومنها الصدقة عنهما، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها: أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ»(١٧).

ومنها صلة أصدقائهما، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي اللهُ عنهما: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَاسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! إِنَّهُمُ الْأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ: صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ»(١٨).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١) برقم ٥٢٧ وصحيح مسلم برقم ٨٥.

(٢) برقم ٣٠٠٤ وصحيح مسلم برقم ٢٥٤٩.

(٣) برقم ٢٥٢٨ وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (٢/ ٤٨٠ - ٤٨١) برقم ٢٢٠٥.

(٤) فتح الباري (٦/ ١٤٠ - ١٤١).

(٥) برقم ١٩٠٠ وقال الترمذي هذا حديث صحيح.

(٦) برقم ٢٥٥١.

(٧) خطب الشيخ ابن عثيمين (٥/ ٢٩٤).

(٨) برقم ٥٩٧١ وصحيح مسلم برقم ٢٥٤٨.

(٩) برقم ٣١٠٤ وسنن ابن ماجه برقم ٢٧٨١ واللفظ له وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن النسائي (٢/ ٦٥١) برقم ٢٩٠٨.

(١٠) برقم ٢٦٢٠ وصحيح مسلم برقم ١٠٠٣.

(١١) برقم ١٥١٠.

(١٢) برقم ١٨٩٩ وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (٢/ ٤٤) برقم ٥١٦.

(١٣) برقم ٢٦٥٤ وصحيح مسلم برقم ٨٧.

(١٤) (٣١/ ٣٧٣) برقم ١٩٠٢٧ وقال محققوه إسناده صحيح.

(١٥) خطب الشيخ ابن عثيمين (٥/ ٢٩٦ - ٢٩٧).

(١٦) برقم ١٦٣١.

(١٧) برقم ١٣٨٨ وصحيح مسلم برقم ١٠٠٤.

(١٨) برقم ٢٥٥٢.