الكلمة الثالثة والثلاثون: تواضعه عليه الصلاة والسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن من الأخلاق الجميلة والخصال الحميدة التي حث عليها الشرع ورغب فيها التواضع، قال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: ١٨]، وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين} [الحجر: ٨٨].
والتواضع: هو خفض الجناح، ولين الجانب، ولا يكون فاعله محموداً إلا إذا فعله ابتغاء وجه الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فلو تواضع ليرفعه الله سبحانه لم يكن متواضعاً، فإنه يكون مقصوده الرفعة، وذلك ينافي التواضع»(١).روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ»(٢).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ» تنبيه على حسن القصد والإخلاص لله في تواضعه؛ لأن كثيراً من الناس قد يُظهر التواضع للأغنياء ليصيب من دنياهم، أو للرؤساء لينال بسببهم مطلوبه، وقد يُظهر التواضع رياء وسمعة، وكل هذه أغراض فاسدة، لا ينفع العبد إلا التواضع لله تقرباً إليه، وطلباً لثوابه وإحسانه إلى الخلق، فكمال الإحسان، وروحه الإخلاص لله»(٣)(٤).
ونبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم إمام المتواضعين، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه: «أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: «يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ؛ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ»: فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا»(٥).
وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: «كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَتَاخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ»(٦).
وروى البغوي في شرح السنة من حديث عائشة رضي اللهُ عنها أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «آكُلُ كَمَا يَاكُلُ العَبْدُ، وَأَجلِسُ كَمَا يَجلِسُ العَبْدُ»(٧).
وروى البغوي في شرح السنة من حديث عائشة رضي اللهُ عنها، قال صلى اللهُ عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ لَوْ شِئْتُ لَسَارَتْ مَعِيَ جِبَالُ الذَّهَبِ، جَاءَنِي مَلَكٌ إِنَّ حُجْزَتَهُ(٨) لَتُسَاوِي الكَعْبَةَ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إِن شِئْتَ نَبِيًّا عَبدًا، وَإِن شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا، فَنَظَرْتُ إِلَى جِبرِيلَ عليه السلام فَأَشَارَ إِلَيَّ أَن ضَعْ نَفْسَكَ، فَقُلتُ: نَبِيًّا عَبدًا ... » الحديث(٩).
ولما سُئلت عائشة رضي اللهُ عنها: «هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَت: نَعَم، كَانَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُم فِي بَيْتِهِ»(١٠).
وكان يقول: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(١١).
ولما جاءه رجل فقال: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ: «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام»(١٢).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ»(١٣). وهذا من تواضعه، وإلا فقد ابتلي النبي صلى اللهُ عليه وسلم بما لم يُبتَلَ به أحد غيره.
وفي الصحيحين من حديث أبي بردة قال: «أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً وَإِزَارًا غَلِيظًا، فَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي هَذَيْنِ»(١٤).
والتواضع من صفات أنبياء الله، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ»(١٥).
وحث النبي صلى اللهُ عليه وسلم أمته على التواضع وخفض الجناح، روى مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»(١٦).
قال أبو بكر الصديق رضي اللهُ عنه: «وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع»، وقالت عائشة رضي اللهُ عنها: «تُغْفِلُونَ أفضل العبادة التواضع».
ومن فوائد التواضع:
١ - أنه طريق موصل إلى الجنة.
٢ - إن الله يرفع قدر المتواضع في قلوب الناس، ويطيب ذكره في الأفواه، ويرفع درجته في الآخرة.
٣ - أن التواضع المحمود يكون للمؤمنين، أما أهل الدنيا والظلمة فإن التواضع لهم ذل.
٤ - أن التواضع دليل على حسن الخلق وطيب المعشر.
٥ - أن التواضع صفة الأنبياء والمرسلين(١٧).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) الفتاوى الكبرى (٦/ ٢٧٩).
(٢) برقم ٢٥٨٨.
(٣) بهجة قلوب الأبرار وقرّة عيون الأخبار (ص: ٩٢).
(٤) الإخلاص طريق الخلاص لأخينا الشيخ عبد الهادي وهبي ص: ٦٦ - ٦٧.
(٥) برقم ٢٣٢٦.
(٦) برقم ٦٠٧٢.
(٧) (١٣/ ٢٤٨) وحسنه الألباني في الصحيحة برقم ٥٤٤.
(٨) الحجزة: موضع شد الإزار، ثم قيل للإزار حجزة للمجاورة، يقال: احتجز الرجل بالإزار إذا شده على وسطه. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (١/ ٣٤٤).
(٩) (١٣/ ٣٤٨) برقم ٣٦٨٣ وقال محققوه حديث صحيح.
(١٠) شرح السنة للبغوي (١٣/ ٢٤٢) برقم ٣٦٧٥ وقال محققوه إسناده صحيح.
(١١) سنن الترمذي ٢٣٥٢ وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (٢/ ٢٧٥) برقم ١٩١٧.
(١٢) صحيح مسلم برقم ٢٣٦٩.
(١٣) برقم ٣٣٧٢ وصحيح مسلم برقم ١٥١.
(١٤) برقم ٥٨١٨ وصحيح مسلم ٢٠٨٠.
(١٥) برقم ٢٢٦٢.
(١٦) برقم ٢٨٦٥.
(١٧) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى اللهُ عليه وسلم (٤/ ١٢٦٨).