الكلمة الثالثة والأربعون: دروس وعبر من سيرة معاذ بن جبل - رضي الله عنه -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فهذه مقتطفات من سيرة عَلَمٍ من أعلام هذه الأمة، وبطلٍ من أبطالها، وعالمٍ من علمائها، الصحابي الجليل معاذ بن جبل ابن عمرو الأنصاري الخزرجي المدني البدري أبو عبد الرحمن، شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان من أفضل شباب الأنصار حلماً، وحياءً، وسخاءً، قال عبد الصمد بن سعيد: كان طويلاً، حسناً، جميلاً، قال المدائني: كان طوالاً حسن الشعر، عظيم العينين، أبيض، جعد قطط، وقد أسلم وعمره ثماني عشرة سنة، وشهد بدراً، وله عشرون أو إحدى وعشرون سنة(١)، روى معاذ أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعثه أميراً على اليمن، ومات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ إِلَى ذَلِكَ، فَأَعلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ"(٢).
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل معاذ ومكانته العظيمة، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ"(٣).
وروى الإِمام أحمد في مسنده من حديث راشد بن سعد وغيرهما قالوا: لَمَّا بَلَغَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ سَرْغَ(٤) حُدِّثَ أَنَّ بِالشَّامِ وَبَاءً شَدِيدًا قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ شِدَّةَ الوَبَاءِ في الشَّامِ، فَقُلْتُ: إِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَقَدْ تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ اسْتَخْلَفْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، فَإِنْ سَألنِي رَبِّي - عز وجل -: لِمَ اسْتَخْلَفْتَهُ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِنَّه يُحشَرُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ العُلَمَاءَ نَبْذةً"(٥). وفي رواية الطبراني: "بِرَتْوَةٍ(٦) "(٧).
وروى الحاكم في المستدرك من حديث مسروق قال: قرأت عند عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه -: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: ١٢٠]، قَالَ: فَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مُعَاذاً كَانَ أُمَّةً قَانِتاً، قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيهِ، فَأَعَادَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الأُمَّةُ؟ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَالقَانِتُ: الَّذِي يُطِيعُ اللهَ وَرَسُولَهُ"(٨).
وعن سهل بن أبي حتمة قال: كَانَ الَّذِينَ يُفْتُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَةٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ: عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ، وَزَيْدٌ(٩).
وكان - رضي الله عنه - من فقهاء الصحابة، روى الحاكم في المستدرك من حديث علي بن رباح، قال: خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْحَلَالِ وَالحَرَامِ فَلْيَأْتِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ(١٠).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب معاذ كثيراً، فروى أبو داود في سننه من حديث معاذ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: "يَا مُعَاذُ: وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"(١١).
ومرت الأيام، والسنون، ودنت ساعة الفراق بين الأحبة، وما أصعبها. روى الإِمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن خرج معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: "يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي"، فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعاً(١٢) لِفِرَاقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ المَدِينَةَ، فَقَالَ: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وَحَيثُ كَانُوا"(١٣)، وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ، إِنَّ البُكَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ"(١٤).
ولما حضرت معاذ الوفاة قال: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبَّ البَقَاءَ في الدُّنْيَا لِكَرْيِ الأَنْهَارِ، وَلَا لِغَرْسِ الأَشْجَارِ، وَلَكِنْ كُنْتُ أُحِبُّ البَقَاءَ لِمُكَابَدَةِ اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَلِظَمَإِ الهَوَاجِرِ في الحَرِّ الشَّدِيدِ، وَلِمُزَاحَمَةِ العُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ.
وقد توفي - رضي الله عنه - بمرض الطاعون في بلاد الشام، فروى الإِمام أحمد في مسنده من حديث أَبِي مُنِيبٍ الأَحْدَبِ قَالَ: خَطَبَ مُعَاذٌ بِالشَّامِ، فَذَكَرَ الطَّاعُونَ فَقَالَ: إِنَّهَا رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَقَبْضُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ. اللهُمَّ أَدْخِلْ عَلَى آلِ مُعَاذٍ نَصيبَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ. ثُمَّ نَزَلَ مِنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ، فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: ١٤٧]، فَقَالَ مُعَاذ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: ١٠٢](١٥).
ومن الدروس والعبر المستفادة من سيرة هذا البطل، وأكتفي باثنتين منها:
١ - علو همته، وحرصه الشديد على تحصيل العلم، فما بين إسلامه ووفاته لا يتجاوز ست عشرة سنة، قال ابن حجر: عاش معاذ ثلاثاً وثلاثين سنة على الصحيح(١٦)، وقد بلغ فيها مبلغاً عظيماً حتى عُدَّ من كبار المُفتين من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهذا يدل على أنَّ الأعمار لا تقاس بالسنين وإنما بالإنجازات، وقد أنجز معاذ في سنوات ما لم ينجزه غيره في عشرات السنين.
٢ - شدته في الحق وفي تنفيذ أحكام الله على الكفرة، والمعاندين. روى الإِمام أحمد في مسنده من حديث أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، بِالْيَمَنِ، فَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، وَنَحْنُ نُرِيدُهُ عَلَى الإِسْلَامِ مُنْذُ، قَالَ: أَحْسَبُهُ، شَهْرَيْنِ. فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَقْعُدُ حَتَّى تَضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَقَالَ: قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ: أَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ دِيْنِهِ فَاقْتُلُوهُ أَوْ قَالَ: مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ(١٧).
رضي الله عن معاذ، وجزاه عن الإِسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) سير أعلام النبلاء (١/ ٤٤٤ - ٤٤٥).
(٢) برقم ١٤٥٨ وصحيح مسلم برقم ١٩.
(٣) صحيح البخاري برقم ٣٧٥٨ وصحيح مسلم برقم ٢٤٦٤ واللفظ له.
(٤) سرغ: بفتح أوله وسكون ثانيه، وهو أول الحجاز وآخر الشام، بين المغيثة وتبوك، من منازل حاج الشام، وانظر معجم البلدان للحموي (٥/ ٣٩).
(٥) قطعة من حديث (١/ ٢٦٣) برقم ١٠٨ وقال محققوه حسن لغيره.
(٦) رتوة: أي رمية بسهم، وقيل: مد البصر.
(٧) معجم الطبراني الكبير (٢٠/ ٣٠) برقم ٤١ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم ١٠٩١.
(٨) (٣/ ١٠٤) برقم ٣٤١٨ وقال محققه إسناده جيد.
(٩) سير أعلام النبلاء (١/ ٤٥١ - ٤٥٢).
(١٠) (٤/ ٣٠٨) برقم ٥٢٣٦؛ وقال الحافظ في الفتح (٧/ ١٢٦) صح عن عمر فذكره.
(١١) برقم ١٥٢٢ وقال النووي إسناده صحيح.
(١٢) جشعاً: قال ابن الأثير في النهاية (١/ ٢٧٤) الجشع: الفزع لفراق الإلف.
(١٣) (٣٦/ ٣٧٦) برقم ٢٢٠٥٢ وقال محققوه إسناده صحيح.
(١٤) (٣٦/ ٣٧٨) برقم ٢٢٠٥٤ وقال محققوه إسناده صحيح.
(١٥) (٣٦/ ٤٠٤) برقم ٢٢٠٨٥ وقال محققوه حسن.
(١٦) فتح الباري (٧/ ١٢٦).
(١٧) (٣٦/ ٣٤٣ - ٣٣٤) برقم ٢٢٠١٥ وقال محققوه إسناده صحيح وأصله في الصحيحين.