الكلمة الثانية
شرح حديث: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا"
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُو أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ»(١).
قوله: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا»: قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «فيه أن الجماد بالنسبة لله - عز وجل - يتكلم مع الله ويناجي الله، وهذا ظاهر في القرآن والسنة، ففي القرآن يقول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١)} [فصلت:١١]، وفي السنة كثير»(٢).
منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ لَهُ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ، وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ»(٣).
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَحَاجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَاّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَعَجَزُهُمْ، قَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ، فَلا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ رِجْلَهُ فِيهَا، فَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، فَهُنَاكَ تَمْتَلِئُ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا»(٤).
«قوله في الحديث: «أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا» من شدة الحر، وشدة البرد، فأذن الله لها أن تتنفس في الشتاء، وتتنفس في الصيف، نفس في الصيف ليخف عليها الحر، وفي الشتاء ليخف عليها البرد، وعلى هذا فأشد ما تجدون من الحر، يكون من فيح جهنم، وأشد ما يكون من الزمهرير من زمهرير جهنم»(٥).
وفي الحديث فوائد كثيرة:
١ - أن النار مخلوقة الآن، وكذلك الجنة، قال تعالى عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١)} [آل عمران:١٣١]. وقال عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)} [آل عمران:١٣٣]، وفي حديث النهي عن الصلاة إذا قام قائم الظهيرة؛ عُلل ذلك بأن جهنم تسجر(٦)(٧).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ»(٨)، وهذا دليل آخر على وجودها الآن.
٢ - أن في جهنم ألوانًا من العذاب، ففيها البرد الشديد والحر الشديد، قال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨)} [ص:٥٧ - ٥٨]، وقال تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥)} [النبأ:٢٤ - ٢٥]. فالحميم الحار الذي قد انتهى حره، وأما الغساق: فهو البارد الذي لا يستطاع من برده، ولا يواجه من نتنه، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهَرَاقُ فِي الدُّنْيَا، لَأَنْتَنَ أَهْلَ الدُّنْيَا»(٩).
٣ - شدة حر هذه النار، ولذلك أُذن لها بنفس الصيف والشتاء، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: ٦]. أكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة من الكبريت الأسود، توقد بها النار وفيها خمسة أشياء: سرعة الاتقاد، نتن الرائحة، كثرة الدخان، شدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حَمِيت(١٠).
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ، قَالُوا: وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا»(١١).
قال القرطبي - رحمه الله -: «وبيان ذلك أنه لو جُمع حطب الدنيا فأوقد كله حتى صار نارًا، لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم الذي هو من سبعين جزءًا أشد من حر نار الدنيا، كما بينه في آخر الحديث قوله: قالوا والله إن كانت كافية، أي نار الدنيا، فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها فُضلت عليها بتسعة وستين ضعفًا»(١٢).
٤ - قدرة الله العظيمة، أن جعل في النار من ألوان العذاب ما لا يصدقه إلا المؤمنون به، العارفون عظيم قدرته، ففيها الحر الشديد، وكذلك البرد الشديد، وفيها الحيَّات، والعقارب، وأنواع الحشرات المؤذية(١٣)، كما أن فيها شجرة الزقوم التي جعلها الله فتنة للظالمين، قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)} [الدخان: ٤٣ - ٤٦]، وقال تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤)} [الصافات: ٦٤]. فهنيئًا لعبد عرف عظمة ربه فآمن به، وسلم له أمره، وقدَّره حق قدره.
٥ - أن على المؤمن أن يستعيذ بالله من النار، وأن يسعى لفكاك نفسه منها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يستعيذ من النار ويأمر بذلك في الصلاة وغيرها، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ»، قَالوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ(١٤).
قال أنس - رضي الله عنه - كما في الصحيحين: كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(١٥).
وروى مسلم في صحيحه من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»(١٦).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١). صحيح البخاري برقم ٥٣٧، وصحيح مسلم برقم ٦١٧.
(٢). التعليق على صحيح مسلم (٣/ ٥٨٨).
(٣). مسند الإمام أحمد (١٤/ ١٥٢) برقم ٨٤٣٠، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(٤). صحيح البخاري برقم ٤٨٥٠، وصحيح مسلم برقم ٢٨٤٦.
(٥). التعليق على صحيح مسلم للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -، شرح كتاب الصلاة ومواقيتها (٣/ ٥٨٤).
(٦). أي: يوقد عليها إيقادًا بليغًا، شرح صحيح مسلم للنووي (٦/ ٣٥٦).
(٧). صحيح مسلم برقم ٨٣٢.
(٨). صحيح البخاري برقم ٣٢٧٧، وصحيح مسلم برقم ١٠٧٩.
(٩) (١٧/ ٢٣١) برقم ١١٢٣٠، وقال محققوه: حديث حسن لغيره.
(١٠). تفسير القرطبي - رحمه الله - (١/ ٣٥٤).
(١١). صحيح البخاري برقم ٣٢٦٥، وصحيح مسلم برقم ٢٨٤٣.
(١٢). التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص ٣٤٣.
(١٣). وردت بذلك أحاديث وآثار حسنها بعض أهل العلم. انظر: السلسلة الصحيحة برقم ٣٤٢٩، والتخويف من النار لابن رجب الحنبلي - رحمه الله - ص ٢٨٨ - ٢٨٩.
(١٤). برقم ٢٨٦٧.
(١٥). صحيح البخاري برقم ٦٣٨٩، وصحيح مسلم برقم ٢٦٩٠.
(١٦). برقم ١٠١٦.