الكلمة الرابعة والعشرون
صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - الخَلْقِية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فقد تقدم الكلام في كلمة سابقة عن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - والحديث في هذه الكلمة عن صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - الخَلْقِية.
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قمة في الكمال والجمال في خلقه، فكم من رجل دخل في الإسلام لمجرد رؤيته رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدة نور وجهه الشريف، فهذا عبد الله بن سلام حبر اليهود وأعلمهم بالتوراة، يقول: «لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل(١) الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب»(٢).
قال حسان بن ثابت يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -:
وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي ... وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبِرَّءًا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ... كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ «فرسولنا - صلى الله عليه وسلم - كان أحسن الناس، وأجمل الناس، لم يصفه واصف قط إلا شبهه بالقمر ليلة البدر، ولقد كان يقول قائلهم: لربما نظرنا إلى القمر ليلة البدر فنقول: هو أحسن في أعيننا من القمر، أحسن الناس وجهًا، وأنورهم لونًا يتلألأ تلألؤ الكواكب، ولقد وصفه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال:
أَمِينٌ مُصْطَفًى لِلْخَيْرِ يَدْعُو ... كَضَوْءِ الْبَدْرِ زَايَلَهُ الظَّلَامُ»(٣)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وكان خَلقُه - صلى الله عليه وسلم - وصورته من أكمل الصور، وأتمها، وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، فأكرمه الله بخُلق حسن، وصورة جميلة، واجتمعت فيه المحاسن»(٤).
وقد وردت أحاديث كثيرة تتضمن صفات خلقية عديدة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أذكر بعضًا منها:
١ - فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا مربوعًا(٥)، بعيد ما بين المنكبين(٦)، عظيم الجمة(٧) إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء ما رأيت شيئًا قط أحسن منه(٨).
٢ - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي جَبْهَتِهِ(٩)،
وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، كَأَنَّمَا الأَرْضَ تُطْوَى(١٠) لَهُ، إنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا(١١)، وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ(١٢)(١٣).
٣ - وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنهما - قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فِي لَيْلَةٍ إِضْحِيَانٍ(١٤)، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقَمَرِ، فَلَهُوَ عِنْدِي أَحْسَنُ مِنَ الْقَمَرِ(١٥).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهر اللون، وهو الأبيض المستنير الناصع البياض وهو أحسن الألوان، فلم يكن بالأبيض الأمهق الشديد البياض(١٦)،
ولم يكن بالآدم الشديد السمرة، وكان بياضه - صلى الله عليه وسلم - مشربًا بحمرة. حتى كان الصحابة - رضي الله عنهم - كثيرًا ما يتمثلون بنعت عمه أبي طالب إياه في لونه حيث يقول:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ اليَتَامَى(١٧) عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ
ويقول كل من سمع ذلك: هكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذه طائفة مختارة من وصف الواصفين ونعت الناعتين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن حضره وعاصره تؤكد وتؤيد ما ذُكر:
- عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: قال: سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كان ربعة(١٨) من القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر(١٩) اللون، ليس بأبيض أمهق ولا آدم(٢٠)، ليس بجعد(٢١) قطط(٢٢) ولا سبط(٢٣) رجل(٢٤).
وعن الجريري عن أبي الطفيل - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما على وجه الأرض رجل رآه غيري، قال: فقلت له: فكيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحًا مُقصدًا(٢٥)(٢٦).
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان عظيم الهامة(٢٧)، أبيض، مُشربًا حمرة، عظيم اللحية، ضخم الكراديس(٢٨)، شثن الكفين والقدمين(٢٩)، طويل المسربة(٣٠)، كثير شعر الرأس رجله(٣١)، يتكفأ في مشيته كأنما ينحدر في صبب(٣٢)، لا طويل، ولا قصير، لم أر مثله قبله ولا بعده - صلى الله عليه وسلم -(٣٣).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أنصاف أُذنيه(٣٤)، وتارة يضرب منكبيه(٣٥).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبيض، كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر(٣٦).
وعن مُحرشٍ الكعبي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من الجعرانة ليلًا فاعتمر ثم رجع فأصبح بها كبائتٍ، فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة(٣٧) فضة(٣٨).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١). انجفل: أي أسرع.
(٢). سنن الترمذي برقم ٢٤٨٥، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(٣). نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (١/ ٤١٥).
(٤). الجواب الصحيح (٥/ ٤٣٨).
(٥). المربوع: هو متوسط القامة، فليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، وإنما هو وسط.
(٦). ما بين المنكبين أي الأيمن والأيسر، والمراد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عريض أعلى الظهر.
(٧). الجمة: هنا الشعر، أي عظيم الشعر إلى شحمة الأذن، وإلا فإن الشعر الذي ينزل إلى شحمة الأُذن يقال له الوفرة. شرح شمائل الترمذي، د. عبدالرزاق البدر، ص ٢٠ - ٢١.
(٨). صحيح البخاري برقم ٣٥٥١، وصحيح مسلم برقم ٢٣٣٧.
(٩). وفي رواية البيهقي في دلائل النبوة: «كأن الشمس تجري في وجهه». قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الفتح: قال الطيبي: شبّه جريان الشمس في فلكها بجريان الحُسن في وجهه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه عكس التشبيه للمبالغة، قال: ويحتمل أن يكون من باب تناهي التشبيه، جعل وجهه مقرًّا ومكانًا للشمس. انظر فتح الباري (٦/ ٥٧٣). وقال السندي: وخص الجبهة بالذكر لأنها محل الظهور، شرح السندي على المسند (١٤/ ٢٥٨).
(١٠). تطوى له الأرض: أي تقطع مسافتها بسهولة ويسر وسرعة. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (٣/ ١٤٦) بتصرف.
(١١). إنا لنجهد أنفسنا: أي نحمل عليها في السير، يقال: جهد الرجل في الشيء: أي جد فيه وبالغ. انظر النهاية لابن الأثير (١/ ٣١٩).
(١٢). وإنه لغير مكترث: أي غير مبال.
(١٣). رواه الترمذي برقم ٣٦٤٨، والإمام أحمد في المسند (١٤/ ٢٥٨) برقم ٨٦٠٤، وقال محققوه: حديث حسن.
(١٤). إضحيان: قال ابن الأثير: يقال: ليلة إضحيان، وإضحيانة: أي مضيئة مقمرة، النهاية في غريب الحديث (٣/ ٧٨).
(١٥). رواه الترمذي برقم ٢٨١١، وقال: حديث غريب، ورواه الدارمي (١/ ٤٤)، ورواه الحاكم في المستدرك (٤/ ٢٠٦) برقم ٧٣٨٣، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في دلائل النبوة (١/ ١٩٦) بهذا اللفظ وفي آخره: « ... فلهو كان في عيني أحسن من القمر»، وفي لفظ آخر عن جابر بن سمرة: « ... فجعلت أماثل بينه وبين القمر». وأيضًا صححه الألباني - رحمه الله -، انظر: مختصر شمائل الترمذي له ص ٢٧.
(١٦). الأمهق: هو اللون الذي لا يخالطه شيء من الحمرة، وليس بنير، وذلك كلون الجص. انظر: منال الطالب لابن الأثير، ص ٢٢٣.
(١٧). ثمال اليتامى: أي: الملجأ والغياث والمطعم في الشدة، انظر لسان العرب (١١/ ٩٤).
(١٨). ربعة: بفتح الراء وسكون الباء، أي كان متوسطًا بين الطول والقصر.
(١٩). أزهر اللون: هو الأبيض المستنير وهو أحسن الألوان، والزهرة: البياض النير.
(٢٠). ولا آدم: الأدمة في الناس السمرة الشديدة.
(٢١). ليس بجعد: الجعد بفتح وسكون: الشعر فيه التواء وانقباض.
(٢٢). القطط: بفتحتين على الأشهر ويجوز كسر ثانيه: الشديد الجعودة.
(٢٣). ولا سبط رجل: السبط بفتح فكسر: الشعر المسترسل الذي ليس فيه تعقد ولا نتوء أصلًا، ورجل: بفتح فكسر ومنهم من يسكن الجيم: أي متسرح. فالحاصل أن شعره - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما.
(٢٤). صحيح البخاري برقم ٣٥٤٧، وصحيح مسلم برقم ٢٣٤٧.
(٢٥). مقصدًا: هو الذي ليس بجسيم ولا نحيف ولا طويل ولا قصير. وقال شمر: هو نحو الرَّبعة. والقصد بمعناه. وملح الشيء، من باب ظرف أي حسن فهو مليح.
(٢٦). رواه مسلم برقم ٢٣٤٠.
(٢٧). الهامة: الرأس، وعظم الرأس دليل على وفور العقل.
(٢٨). الكراديس: جمع كردوس، وهو رأس كل عظم كبير، وملتقى كل عظمين ضخمين، كالمنكبين، والمرفقين، والوركين، والركبتين، ويريد به ضخامة الأعضاء وغلظها.
(٢٩). شثن الكفين: أي غليظ الأصابع والراحة، قال ابن حجر - رحمه الله -، وقال ابن الأثير - رحمه الله - شثن الكف غليظ الكف، وقال أيضًا: هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر، ويحمد ذلك في الرجال؛ لأنه أشد لقبضتهم، وأصبر لهم على المراس، ويذم في النساء. انظر: فتح الباري (١٠/ ٣٥٩)، والنهاية في غريب الحديث (٢/ ٤٤٤)، ولسان العرب (١٣/ ٢٣٢).
(٣٠). المسربة: بفتح الميم وسكون السين وضم الراء، قال ابن الأثير: الشعر النابت على وسط الصدر نازلًا إلى آخر البطن، جامع الأصول (١١/ ٢٢٤)، وتحفة الأحوذي (١٠/ ١١٧).
(٣١). رجله: أي يجمع بين الاسترسال والجعودة.
(٣٢). أي: كأنما ينحط من صبب، أي يرفع رجله من قوة وجلادة، والأشبه أن يتكفأ بمعنى صب الشيء دفعة. انظر: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (٥/ ٤٤٣).
(٣٣). مسند أحمد (٢/ ٢٥٧) برقم ٩٤٤، وقال محققوه: حسن لغيره.
(٣٤). صحيح مسلم برقم ٢٣٣٨.
(٣٥). صحيح البخاري ٥٩٠٣، وصحيح مسلم ٢٣٣٨.
(٣٦). رواه الترمذي في الشمائل المحمدية ص ٢٧، وحسنه الألباني - رحمه الله -. انظر السلسلة الصحيحة برقم ٢٠٥٣.
(٣٧). سبيكة فضة: سبك الذهب والفضة بمعنى ذوبه وأفرغه في قالب، والسبيكة: القطعة المذوبة منه. انظر: لسان العرب (١٠/ ٤٣٨)، والمراد تشبيهه - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية النسائي - أو تشبيه ظهره الشريف بالقطعة من الفضة في البياض والصفاء.
(٣٨). أبو داود مختصرًا برقم ١٩٩٦. ورواه النسائي برقم ٢٨٦٤، بلفظ: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من الجعرانة ليلًا كأنه سبيكة فضة، فاعتمر ثم أصبح بها كبائت»، وصححه الألباني - رحمه الله -. انظر صحيح سنن النسائي برقم ٢٦٨٢.