الكلمة الثامنة والأربعون: الحج وجوبه وفضله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: ٢٨].
وقال تعالى: {فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: ٩٧].
وقال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: ٢٧].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»(١).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا»(٢).
وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي المَعِيشَةِ، يَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ، لَا يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ»(٣).
فهذه الآيات والأحاديث المتقدمة، فيها بيان أن الحج ركن من أركان الإِسلام، وفريضة من فرائضه العظام.
والقول الراجح من كلام أهل العلم أن الحج يجب على الفور، فمن استطاع الوصول إلى البيت ولم يحج فهو على خطر عظيم، وما يدريه لعله يأتيه الأجل وهو لم يقض هذه الفريضة العظيمة.
عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يقول: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَبْعَثَ رِجَالاً إلَى هَذِهِ الأَمْصَارِ، فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ لَهُ جَدَّةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ(٤).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث الفضل بن عباس - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ»(٥).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَعْجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ - يعني الفريضة - فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ»(٦).
ومن فضائل الحج:
أولاً: أن الحج يهدم ما كان قبله من الذنوب، روى مسلم في صحيحه من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في قصة إسلامه، وفيها: فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ ! » قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ » قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قال: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ »(٧).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(٨).
ثانيًا: أن الحج أفضل الأعمال بعد الإِيمان والجهاد، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيِمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ» قِيَلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيِل اللهِ» قِيَلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجُّ مَبْرُوْرٌ»(٩).
ثالثًا: أن النفقة في الحج يضاعف الأجر لصاحبها كما يضاعف أجر المجاهد، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِسَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ»(١٠).
رابعًا: أن الحج إذا كان خالصًا لوجه الله، وموافقًا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت نفقته من كسب حلالٍ طيب فجزاؤه الجنة.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُوْرُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَاّ الْجَنَّةُ»(١١).
قال الشاعر:
إِذَا حجَجَت بِمَال أَصلُهُ دَنِسُ ... فما حجَجْت ولكن حجَّت العِيرُ
ما يَقْبَلُ اللَّهُ إلا كُلَّ طيبةٍ ... ما كُلُّ من حَج بيتَ اللَّه مَبْرُورُ
خامسًا: أن الحج والعمرة من أعظم أسباب الغنى.
روى النسائي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالْذُّنُوْبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيَرُ خَبَثَ الْحَدِيْدِ»(١٢).
سادسًا: أن اللَّه تعالى يباهي بالحجاج الملائكة.
روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إِنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَن يُعْتِقَ اللَّهُ عَبْداً مِن النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ »(١٣).
سابعًا: أن من طاف بالبيت واستلم الحجر الأسود شهد له يوم القيامة. روى الترمذي في سننه من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في الحجر: «وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍ»(١٤).
ثامنًا: أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه كما ثبت بذلك الحديث عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -(١٥).
تاسعًا: أن الحجاج وفد اللَّه روى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالحَاجُّ وَالمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللَّهِ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ»(١٦).
وفضائل الحج ومنافعه الدينية والدنيوية كثيرة جدًّا، وقد أشار الله إليها بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج: ٢٨].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) صحيح البخاري برقم (٨)، وصحيح مسلم برقم (١٦).
(٢) صحيح مسلم برقم (١٣٣٧).
(٣) صحيح ابن حبان برقم (٣٦٩٥) وصححه الألباني في الترغيب والترهيب (٢/ ٤٢) برقم (١١٦٦).
(٤) التلخيص الحبير (٢/ ٢٢٣) والأثر أسنده اللالكائي في الاعتقاد (١٥٦٧) وابن الجوزي في التحقيق (١٢١٣) وغيرهما.
(٥) مسند الإمام أحمد (٣/ ٣٣٣) برقم (١٨٣٤) وقال محققوه: حديث حسن.
(٦) مسند الإمام أحمد (٥/ ٥٨) برقم (٢٨٦٧) وقال محققوه: حديث حسن.
(٧) جزء من حديث في صحيح مسلم برقم (١٢١).
(٨) صحيح البخاري برقم (١٥٢١)، وصحيح مسلم برقم (١٣٥٠).
(٩) صحيح البخاري برقم (٢٦)، وصحيح مسلم برقم (٨٣).
(١٠) مسند الإمام أحمد (٣٨/ ١٠٦) برقم (٢٣٠٠٠) وقال محققوه: حديث حسن لغيره.
(١١) صحيح البخاري برقم (١٧٧٣)، وصحيح مسلم برقم (١٣٤٩).
(١٢) سنن النسائي برقم (٢٦٣٠)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (٢/ ٥٥٨) برقم (٢٤٦٧).
(١٣) صحيح مسلم برقم (١٣٤٨).
(١٤) سنن الترمذي برقم (٩٦١)، وقال: هذا حديث حسن.
(١٥) مسند الإمام أحمد (٢٣/ ٤٦) برقم (١٤٦٩٤) وقال محققوه: إسناده صحيح.
(١٦) سنن ابن ماجه برقم (٢٨٩٣)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (٢/ ١٤٩) برقم (٢٣٣٩).