المدونة

الكلمة التاسعة والعشرون: النذر وأحكامه

الكلمة التاسعة والعشرون

النذر وأحكامه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد ..

النذر لغة: الإيجاب، تقول: نذرت كذا إذا أوجبته على نفسك، وشرعًا: إلزام مكلف مختار نفسه شيئًا لله تعالى.

وصيغ النذر وألفاظه أن يقول: «للَّه علي أن أفعل كذا، أو علي نذر كذا»، ونحو ذلك من الألفاظ.

وقد مدح الله - عز وجل - الموفين بالنذر وأثنى عليهم، قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: ٢٧٠]، وقال تعالى في وصف الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:٧]، وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: ٢٩].

وقد كره بعض أهل العلم النذر ابتداءً لأن الناذر يلزم نفسه بشيء لا يلزمه في أصل الشرع، فيحرج نفسه ويثقلها بهذا النذر؛ ولأنه مطلوب من المسلم فعل الخير بدون نذر، إلا أنه إذا نذر فعل طاعة وجب عليه الوفاء به، لما رواه البخاري في صحيحه من حديث عائشة - رضي الله عنها -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ»(١).

شروط صحة النذر ولزومه:

قال العلماء: لا يصح النذر إلا أن يكون نذر طاعة من شخص بالغ عاقل مختار، فلا يصح النذر من الصبي، ولا من المجنون والمعتوه، ولا من المكره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمُصَابِ حَتَّى يُكْشَفَ عَنْهُ»(٢).

فدل الحديث على أنه لا يلزم النذر من هؤلاء لرفع القلم عنهم، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عليه»(٣).

ويصح النذر من الكافر إذا نذر عبادة، ويلزمه الوفاء به إذا أسلم، لحديث عمر - رضي الله عنه - قال: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ»(٤).

أنواع النذر وحكم كل نوع:

١ - نذر التبرر: وهو نذر الطاعة كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوها وهو على نوعين:

الأول: النذر المطلق أي غير معلق على حصول شرط، كما لو قال: لله عليَّ أن أصلي أو أتصدق أو أصوم كذا وكذا. وهذا النوع هو الذي رأى بعض أهل العلم كراهيته ابتداء كما تقدم بيانه.

الثاني: المعلق على شرط، كأن يقول: لله عليَّ نذر كذا وكذا إن رزقت بولد أو تيسر لي الشيء الفلاني. وهذا النوع جاء فيه النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر، وقال: «إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ»(٥).

والأصل في النهي التحريم، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى تحريم هذا النوع وذهب آخرون إلى كراهته.

٢ - النذر المطلق: نحو قوله: «لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ» ولم يسم شيئًا فليزمه كفارة يمين، سواء كان مطلقًا أو معلقًا بشرط، لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»(٦).

٣ - نذر اللجاج والغضب: وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه، أو الحمل عليه، أو التصديق، أو التكذيب، كما لو قال: إن كلمتك أو: إن لم أخبرك، أو: إن لم يكن هذا الخبر صحيحًا، أو: إن كان كذبًا، فعليَّ الحج أو العتق، فهذا النذر خارج مخرج اليمين للحث على فعل شيء، أو المنع منه، ولم يقصد به النذر ولا القربة، فهذا يخير فيه بين فعل ما نذره أو كفارة يمين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»(٧).

٤ - نذر المباح: كما لو نذر أن يلبس ثوبه أو يركب دابته، ويخير بين فعله وبين كفارة يمين إن لم يفعله؛ واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه لا شيء عليه في نذر المباح؛ لما روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»(٨).

٥ - نذر المعصية: كنذر شرب الخمر، وصوم أيام الحيض ويوم النحر، فلا يجوز الوفاء بهذا النذر؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ، فَلَا يَعْصِهِ»(٩).

فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية؛ لأن المعصية لا تُباح في حال من الأحوال.

ومن نذر المعصية: النذر للقبور أو لأهل القبور، وهو شرك أكبر، ويُكفر عن هذا النذر كفارة يمين عند بعض أهل العلم، وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب - رضي الله عنهم -.

واستدل أصحاب القول الأول بالحديث الذي رواه ابن الجارود في المنتقى والبيهقي من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ النَّذْرَ نَذْرَانِ: فَمَا كَانَ لِلَّهِ فَكَفَّارَتُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمَا كَانَ لِلشَّيْطَانِ فَلَا وَفَاءَ لَهُ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»(١٠).

وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم انعقاد نذر المعصية، وأنه لا يلزمه به كفارة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: «ومن أسرج قبرًا أو مقبرة أو جبلًا أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو المضافين إلى ذلك المكان؛ لم يجز، ولا يجوز الوفاء به إجماعًا، ويُصرف في المصالح ما لم يُعلم ربُّه ... انتهى»(١١)(١٢).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١). برقم ٦٦٩٦.

(٢). مسند الإمام أحمد برقم ٩٤٠ من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقال محققوه: صحيح لغيره، الحسن وهو ابن أبي الحسن البصري لم يسمع من علي. وأخرجه النسائي في الكبرى ٧٣٤٧ من طريق يزيد بن زريع عن يونس به، موقوفًا على علي، ورجح النسائي وقفه، وكذا الدارقطني في العلل (٣/ ١٩٢) لكن له حكم الرفع.

(٣). برقم ٢٠٤٣ من حديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في سنن ابن ماجه (١/ ٣٤٧) برقم ١٦٦٢.

(٤). صحيح البخاري برقم ٢٠٣٢، وصحيح مسلم برقم ١٦٥٦.

(٥). صحيح البخاري برقم ٦٦٩٢، وصحيح مسلم برقم ١٦٣٩.

(٦). صحيح مسلم برقم ١٦٤٥، دون قوله: ولم يسم، وسنن الترمذي برقم ١٥٢٨، وقال: حسن صحيح غريب، وضعفه غيره، لكن يؤيده ما رواه أبو داود برقم ٣٣٢٢ بنحوه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، ورجح الأئمة وقفه عليه. انظر: سبل السلام (٨/ ٤٢).

(٧). صحيح مسلم برقم ١٦٤٥ من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنهما -.

(٨). صحيح البخاري برقم ٦٧٠٤.

(٩). سبق تخريجه ص ٢١٤.

(١٠). ابن الجارود في المنتقى (٩٣٥)، والبيهقي في السنن الكبرى (٢٠/ ١٩٤) برقم (٢٠١٠٢) (٢٠/ ١٩٤)، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في السلسلة الصحيحة برقم (٤٧٩).

(١١). الاختيارات الفقهية ص ٤٧٦.

(١٢). الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان (٢/ ٦١٢ - ٦١٦)، والفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة لمجموعة من العلماء ص ٥٣١ - ٥٣٥.