المدونة

الكلمة الخامسة عشرة: وقفات مع قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}

الكلمة الخامسة عشرة:

وقفات مع قوله تعالى:

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} [سورة المؤمنون].

«اختلف العلماء في المراد بالحق في هذه الآية، فقال بعضهم: الحق: هو الله تعالى، ومعلوم أن الحق من أسمائه الحسنى، كما في قوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}، وكون المراد بالحق في الآية هو الله عزاه القرطبي للأكثرين، وممن قال به: مجاهد، وابن جريج، وأبو صالح، والسدي، وروي عن قتادة، وغيرهم.

وعلى هذا القول فالمعنى: لو أجابهم الله إلى تشريع ما أحبوا تشريعه، وإرسال من اقترحوا إرساله بأن جعل أمر التشريع وإرسال الرسل ونحو ذلك تابعًا لأهوائهم الفاسدة لفسدت السموات والأرض ومن فيهن، لأن أهواءهم الفاسدة وشهواتهم الباطلة لا يمكن أن تقوم عليها السماء والأرض، وذلك لفساد أهوائهم واختلافها. فالأهواء الفاسدة المختلفة لا يمكن أن يقوم عليها نظام السماء والأرض ومن فيهن، بل لو كانت هي المتبعة لفسد الجميع.

من الآيات الدالة على أن أهواءهم لا تصلح لأن تكون متبعة قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} لأن القرآن لو أنزل على أحد الرجلين المذكورين، وهو كافر يعبد الأوثان فلا فساد أعظم من ذلك. وقد رد الله عليهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} الآية، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)}. قال ابن كثير -رحمه الله-: ففي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه، سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا.

ومما يوضح أن الحق لو اتبع الأهواء الفاسدة المختلفة لفسدت السموات والأرض ومن فيهن قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فسبحان الله رب العرش عما يصفون.

القول الثاني: أن المراد بالحق في الآية: الحق الذي هو ضد الباطل المذكور في قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)} وهذا القول الأخير اختاره ابن عطية، وأنكر الأول.

وعلى هذا القول فالمعنى: أنه لو فرض كون الحق متبعًا لأهوائهم التي هي الشرك بالله، وادعاء الأولاد والأنداد له، ونحو ذلك لفسد كل شيء؛ لأن هذا الفرض يصير به الحق هو أبطل الباطل، ولا يمكن أن يقوم نظام السماء والأرض على شيء هو أبطل الباطل؛ لأن استقامة نظام هذا العالم لا تمكن إلَّا بقدرة وإرادة إله هو الحق منفرد بالتشريع، والأمر والنهي، كما لا يخفى على عاقل، والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)}.

اختلف العلماء في الذكر في الآية، فمنهم من قال: {ذِكْرِهِمْ} فخرهم وشرفهم؛ لأن نزول هذا الكتاب على رجل منهم فيه لهم أكبر الفخر والشرف، وعلى هذا فالآية كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} على تفسير الذكر بالفخر والشرف. وقال بعضهم: الذكر في الآية: الوعظ والتوصية، وعليه فالآية كقوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}. وقال بعضهم: الذكر هو ما كانوا يتمنونه في قولهم: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)} وعليه فالآية كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}، وعلى هذا القول فقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)} الآية كقوله هنا، فهم عن ذكرهم معرضون، وكقوله: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}، والآيات بمثل هذا على القول الأخير كثيرة، والعلم عند الله تعالى» (¬1).

ومن فوائد الآية الكريمة?

1- أن الأهواء الفاسدة المخالفة للحق يعم فسادها جميع المخلوقات من جماد وحيوان وإنسان، لقوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [سورة المؤمنون، الآية رقم: 71].

وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [سورة الروم، الآية رقم: 41]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «العَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» (¬2) -يعني إذا مات- الحديث.

2- أنزل الله على خلقه الوحي وركب فيهم الهوى وأمر باتباع الوحي ونهاهم عن اتباع الأهواء، وهذا هو الاختيار الذي من أجله خلق الخلق فناج وهالك وما ربك بظلام للعبيد. قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [سورة الجاثية، الآيتان رقم: 18، 19].

3- أن الهوى أصل كل بدعة، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)} [سورة الفرقان، الآية رقم: 43].

والبدعة في كل باب هي أعظمها شرًّا وأكثرها خطرًا، ذلك أن صاحبها لا يتوب منها ما دام الهوى هو إمامه.

4- كل الناس ناج إلا صاحب الهوى لأنه لا ينقاد إلى الحق ولو أنه أوضح من شمس النهار، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} [سورة النمل، الآية رقم: 14]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)} [سورة محمد، الآية رقم: 14].

كثيرًا ما يزاحم الهوى الحق في الحكم بالعدل، قال تعالى لنبيه داود -عليه السلام-: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [سورة ص، الآية رقم: 26].

5- قد يتبع المرء الحق لا لأنه حق ولكن لموافقته لهواه، وهذا لا ينفعه حتى يتبع الحق فيما وافق هواه وخالفه، قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)} [سورة النور، الآيات رقم: 48-50]. والمرض هنا هو الهوى وهو على نوعين: مرض الشهوات ومرض الشبهات، والثاني أشدهما ضررًا وأكثرهما فسادًا.

6- أن في اتباع الحق صلاح للعالم بأسره في دينه ودنياه.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) أضواء البيان للشنقيطي (5/ 878-880).

(¬2) صحيح البخاري برقم (6512).