المدونة

الكلمة الثانية والثلاثون: تأملات في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} رقم (4)

الكلمة الثانية والثلاثون

تأملات في قوله تعالى:

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} رقم (4)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

فمن هدي القرآن للتي هي أقوم ملك الرقيق المعبر عنه في القرآن بملك اليمين في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [سورة النساء، الآية رقم: 3]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)} [سورة المعارج، الآيتان رقم: 29-30]، وقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [سورة النساء، الآية رقم: 36]، وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ...} [سورة النساء، الآية رقم: 24]، وقولهچ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...} [سورة النور، الآية رقم: 33]، وقوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ...} [سورة الأحزاب، الآية رقم: 52]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ...} [سورة الأحزاب، الآية رقم: 50]، وقولهچ: {وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [سورة الأحزاب، الآية رقم: 55]، وقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [سورة النور، الآية رقم: 31]، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} [سورة النساء، الآية رقم: 25]، وقوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [سورة النحل، الآية رقم: 71]، وقوله تعالى: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ...} الآية، [سورة الروم، الآية رقم: 28]، إلى غير ذلك من الآيات.

فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات ونحوها ملك الرقيق بالرق. ومن الآيات الدالة على مالك الرقيق قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا...} الآية، [سورة النحل، الآية رقم: 75]، وقوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ...} الآية [سورة البقرة، الآية رقم: 221]، ونحو ذلك من الآيات.

وسبب الملك بالرق: هو الكفر، ومحاربة الله ورسوله. فإذا أقدر الله المسلمين المجاهدين الباذلين مهجهم وأموالهم، وجميع قواهم، وما أعطاهم الله فتكون كلمة الله هي العليا على الكفار جعلهم ملكًا لهم بالسبي، إلا إذا اختار الإمام المن أو الفداء؛ لما في ذلك من المصلحة على المسلمين.

وهذا الحكم من أعدل الأحكام وأوضحها وأظهرها حكمة، وذلك أن اللهچ خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه، ويمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [سورة الذاريات، الآيتان رقم: 56-57]، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [سورة إبراهيم، الآية رقم: 34]، وفي الآية الأخرى «في سورة النحل» {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [سورة النحل، الآية رقم: 18]، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ليشكروه، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل، الآية رقم: 78]. فتمرد الكفار على ربهم وطغوا وعتوا، وأعلنوا الحرب على رسله لئلا تكون كلمته هي العليا، واستعملوا جميع المواهب التي أنعم عليهم بها في محاربته، وارتكاب ما يسخطه، ومعاداته ومعاداة أوليائه القائمين بأمره؛ وهذا أكبر جريمة يتصورها الإنسان.

فعاقبهم الحكم العدل اللطيف الخبيرچ عقوبة شديدة تناسب جريمتهم؛ فسلبهم التصرف، ووضعهم من مقام الإنسانية إلى مقام أسفل منه كمقام الحيوانات، فأجاز بيعهم وشراءهم، وغير ذلك من التصرفات المالية، مع أنه لم يسلبهم حقوق الإنسانية سلبًا كليًّا، فأوجب على مالكيهم الرفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم؛ كما هو معروف في السنة الواردة عنه -صلى الله عليه وسلم-، مع الإيصاء عليهم في القرآن؛ كما في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} إلى قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} كما تقدم [سورة النساء، الآية رقم: 26].

وتشوف الشارع تشوفًا شديدًا للحرية والإخراج من الرق؛ فأكثر أسباب ذلك، كما أوجبه في الكفارات؛ من قتل خطأ وظهار ويمين وغير ذلك، وأوجب سراية العتق، وأمر بالكتابة في قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [سورة النور، الآية رقم: 33] ورغب في الإعتاق ترغيبًا شديدًا. ولو فرضنا - ولله المثل الأعلى- أن حكومة من هذه الحكومات التي تنكر الملك بالرق وتشنع في ذلك على دين الإسلام، قام عليها رجل من رعاياها كانت تغدق عليه النعم، وتسدي إليه جميع أنواع الإحسان، ودبر عليها ثورة شديدة يريد بها إسقاط حكمها، وعدم نفوذ كلمتها، والحيلولة بينها وبين ما تريده من تنفيذ أنظمتها، التي يظهر لها أن بها صلاح المجتمع، ثم قدرت عليه بعد مقاومة شديدة فإنها تقتله شر قتلة. ولا شك أن ذلك القتل يسلبه جميع تصرفاته وجميع منافعه؛ فهو أشد سلبًا لتصرفات الإنسان ومنافعه من الرق بمراحل. والكافر قام ببذل كل ما في وسعه ليحول دون إقامة نظام الله الذي شرعه؛ ليسير عليه خلقه فينشر بسببه في الأرض الأمن والطمأنينة؛ والرخاء والعدالة، والمساواة في الحقوق الشرعية، وتنتظم به الحياة على أكمل الوجوه وأعدلها وأسماها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [سورة النحل، الآية رقم: 90]، فعاقبه الله هذه المعاقبة بمنعه التصرف ووضع درجته، وجريمته تجعله يستحق العقوبة بذلك.

فإن قيل: إذا كان الرقيق مسلمًا فما وجه ملكه بالرق؟ مع أن سبب الرق الذي هو الكفر ومحاربة الله ورسله قد زال؟

فالجواب? أن القاعدة المعروفة عند العلماء وكافة العقلاء: أن الحق السابق لا يرفعه الحق اللاحق، والأحقية بالأسبقية ظاهرة لا خفاء بها، فالمسلمون عندما غنموا الكفار بالسبي: ثبت لهم حق الملكية بتشريع خالق الجميع، وهو الحكيم الخبير، فإذا استقر هذا الحق وثبت، ثم أسلم الرقيق بعد ذلك كان حقه في الخروج من الرق بالإسلام مسبوقًا بحق المجاهد الذي سبقت له الملكية قبل الإسلام، وليس من العدل والإنصاف رفع الحق السابق بالحق المتأخر عنه؛ كما هو معلوم عند العقلاء. نعم، يحسن بالمالك ويجمل به أن يعتقه إذا أسلم، وقد أمر الشارع بذلك ورغب فيه، وفتح له الأبواب الكثيرة كما قدمنا – فسبحان الحكيم الخبير {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [سورة الأنعام، الآية رقم: 115] فقوله: {صِدْقًا} أي: في الأخبار، وقوله: {وَعَدْلًا} أي: في الأحكام. ولا شك أن من ذلك العدل: الملك بالرق وغيره من أحكام القرآن.

وكمْ من عائِبٍ قوْلًا صَحيحًا

وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّقيمُ (¬1)

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) أضواء البيان للشنقيطي -رحمه الله- (3/ 505-508).