الكلمة الخامسة والثلاثون
تأملات في قوله تعالى:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} رقم (7)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم بيانه أن كل من اتبع تشريعًا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح، مخرج من الملة الإسلامية.
روى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم فكلوا، فأنزل الله ک: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام، الآية: 121] (¬1).
{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [سورة الأنعام، الآية رقم: 121].
وحذف الفاء من قوله {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} يدل على قسم محذوف على حد قوله في الخلاصة:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ
جَوَابَ مَـا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ
إذ لو كانت الجملة جوابًا للشرط لاقترنت بالفاء على حد قوله في الخلاصة أيضًا:
وَاقْرُنْ بِفَا حَتْمًَا جَوَابًَا لَوْ جُعِلْ
شَرْطًَا لإِنْ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَنْجَعِلْ
فهو قسم من الله چ أقسم به على أن من اتبع الشيطان في تحليل الميتة أنه مشرك، وهذا الشرك مخرج عن الملة بإجماع المسلمين، وسيوبخ الله مرتكبه يوم القيامة بقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)} [سورة يس، الآية رقم: 60]، لأن طاعته في تشريعه المخالف للوحي هي عبادته، وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)} [سورة النساء، الآية رقم: 117] أي ما يعبدون إلا شيطانًا، وذلك باتباعهم تشريعه. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [سورة الأنعام، الآية رقم: 137] الآية، فسماهم شركاء؛ لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى. وقال تعالى عن خليله: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [سورة مريم، الآية رقم: 44] الآية، أي: بطاعته في الكفر والمعاصي. ولما سأل عدي بن حاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [سورة التوبة، الآية رقم: 31] الآية، بين له أن معنى ذلك أنهم أطاعوهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم. والآيات بمثل هذا كثيرة.
والعجب ممن يحكم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} [سورة النساء، الآية رقم: 60]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة، الآية رقم: 44]، وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)} [سورة الأنعام، الآية رقم: 114] (¬2).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) برقم (2818) وحسنه الشيخ مقبل الوادعي -رحمه الله- كما في صحيح المسند من أسباب النزول (ص110).
(¬2) أضواء البيان للشيخ الشنقيطي (3/ 522-524).