الكلمة السابعة والثلاثون
تأملات في قوله تعالى:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} رقم (9)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
ومن هدي القرآن الكريم للطريق التي هي أقوم وأعدل، المصالح التي عليها مدار الشرائع الثلاثة وهي:
1- الأولى? درء المفاسد المعروف عند أهل علم الأصول بالضروريات.
2- الثانية? جلب المصالح المعروف عند أهل علم الأصول بالحاجيات.
3- الثالثة? الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، المعروف عند أهل علم الأصول بالتحسينيات والتتميميات.
وكل هذه المصالح الثلاث هدى فيها القرآن العظيم للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها.
• فالضروريات التي هي درء المفاسد? إنما هي درؤها عن ستة أشياء:
الأولى: الدِّين، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [سورة البقرة، الآية رقم: 193]، وفي آية الأنفال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الآية رقم: 29]، وقال تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [سورة الفتح، الآية رقم: 16]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» (¬1) الحديث، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬2)، إلى غير ذلك من الأدلة في المحافظة على الدين.
والثاني: النفس، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها بأقوم الطرق وأعدلها، ولذلك أوجب القصاص درءًا للمفسدة عن الأنفس، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} الآية، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [سورة البقرة، الآية رقم: 178]، وقال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [سورة الإسراء، الآية رقم: 33].
الثالث: العقل، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [سورة المائدة، الآيتان رقم: 90-91]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ» (¬3)، وقال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» (¬4) كما قدمنا ذلك مستوفى في «سورة النحل» وللمحافظة على العقل أوجب -صلى الله عليه وسلم- حد الشارب درءًا للمفسدة عن العقل.
الرابع: النسب، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها، ولذلك حرم الزنى وأوجب فيه الحد الرادع، وأوجب العدة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت، لئلا يختلط ماء رجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على الأنساب، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [سورة الإسراء، الآية رقم: 32]، ونحو ذلك من الآيات، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} الآية [سورة النور، الآية رقم: 2] وقد قدمنا آية الرجم والأدلة الدالة على أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم، وقال تعالى في إيجاب العدة حفظًا للأنساب: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [سورة البقرة، الآية رقم: 228]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [سورة البقرة، الآية رقم: 234]، وإن كانت عدة الوفاة فيها شبه تعبد لوجوبها مع عدم الخلوة بين الزوجين.
ولأجل المحافظة على النسب منع سقي زرع الرجل بماء غيره؛ فمنع نكاح الحامل حتى تضع، قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق، الآية رقم: 4].
الخامس: العرض، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها، فنهى المسلم عن أن يتكلم في أخيه بما يؤذيه، وأوجب عليه إن رماه بفرية حد القذف ثمانين جلدة؛ قال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [سورة الحجرات، الآية رقم: 12]، وقبحچ غيبة المسلم غاية التقبيح؛ بقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}، وقال: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [سورة الحجرات، الآية رقم: 11]، وقال في إيجاب حد القاذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [سورة النور، الآيتان رقم: 4-5].
السادس: المال، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها؛ ولذلك منع أخذه بغير حق شرعي؛ وأوجب على السارق حد السرقة، وهو قطع اليد كما تقدم؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء، الآية رقم: 29]، وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [سورة البقرة، الآية رقم: 188]، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [سورة المائدة، الآية رقم: 38]، وكل ذلك محافظة على المال ودرء للمفسدة عنه.
• جلب المصالح: وقد جاء القرآن بجلب المصالح بأقوم الطرق وأعدلها؛ ففتح الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [سورة الجمعة، الآية رقم: 10]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة، الآية رقم: 198]، وقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [سورة المزمل، الآية رقم: 20]، وقال تعالى: {بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء، الآية رقم: 29].
ولأجل هذا جاء الشرع الكريم بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع: ليستجلب كل مصلحته من الآخر، كالبيوع والإجارات والأكرية والمساقاة والمضاربة، وما جرى مجرى ذلك.
• الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات? وقد جاء القرآن بذلك بأقوم الطرق وأعدلها، والحض على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كثير جدًّا في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك لما سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- قالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» (¬5) لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق؛ لأن الله تعالى يقول في نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [سورة القلم، الآية رقم: 4].
فدل مجموع الآية وحديث عائشة على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق: أنه يكون على خلق عظيم، وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق، وسنذكر لك بعضًا من ذلك تنبيهًا به على غيره.
فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [سورة البقرة، الآية رقم: 237]، فانظر ما في هذه الآية من الحض على مكارم الأخلاق من الأمر بالعفو والنهي عن نسيان الفضل.
وقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [سورة المائدة، الآية رقم: 2]، وقال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [سورة المائدة، الآية رقم: 8] فانظر ما في هذه الآيات من مكارم الأخلاق، والأمر بأن تعامل من عصى الله فيك بأن تطيعه فيه.
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [سورة النساء، الآية رقم: 36] فانظر إلى هذا من مكارم الأخلاق، والأمر بالإحسان إلى المحتاجين والضعفاء، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [سورة النحل، الآية رقم: 90].
وقال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف، الآية رقم: 31]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [سورة الأنعام، الآية رقم: 151]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} [سورة الفرقان، الآية رقم: 72].
وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [سورة القصص، الآية رقم: 55].
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات (¬6).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) صحيح البخاري برقم (25)، وصحيح مسلم برقم (21).
(¬2) صحيح البخاري برقم (3017).
(¬3) جزء من حديث في صحيح مسلم برقم (2003).
(¬4) مسند الإمام أحمد (11/ 119) برقم (6558)، وقال محققوه: صحيح.
(¬5) مسند الإمام أحمد (43/ 15) برقم (25813)، وقال محققوه: حديث صحيح.
(¬6) أضواء البيان للشنقيطي (3/ 532-537).