الكلمة التاسعة والأربعون
?الحلال بين والحرام بين?
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
فمما انتشر بين الناس في هذه الأزمنة استحلال بعضهم لمحرمات وردت نصوص صريحة بتحريمها من الكتاب أو السنة، فتجد الواحد منهم يبحث عن فتوى شاذة، أو زلة عالم، ويلوي النصوص الواردة في تحريم هذا العمل ليستحله «ويشرعه» فيصبح هذا الأمر مستحلًّا يمارس علانية أمام الناس. وقد ذكر الله هذا الصنف في كتابه فقال: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)} [سورة النور، الآيات رقم: 47-50].
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-. قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي إلى حكم الشرع، وليس ذلك لأجل أنه حكم شرعي، وإنما ذلك لأجل موافقة أهوائهم، فليسوا ممدوحين في هذه الحال، ولو أتوا إليه مذعنين، لأن السعيد حقيقة من يتبع الحق فيما يحب ويكره، وفيما يسره ويحزنه، وأما الذي يتبع الشرع عند موافقة هواه وينبذه عند مخالفته ويقدم الهوى على الشرع فليس بعبد على الحقيقة(١).
ولذا ينبغي للمسلم أن يراعي الأمور التالية?
1- النية? والمقصود أن يعلم الله منه أنه يريد مرضاة ربه وليس ما يوافق هواه. قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الفرقان، الآية رقم: 43]، قال ابن كثير -رحمه الله-: «أي مهما استحسن من شيء ورآه حسنًا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه»(٢)، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [سورة فاطر، الآية رقم: 8]، وقال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة ص، الآية رقم: 26].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)} [سورة التوبة، الآية رقم: 62].
2- أن يكون مؤهلًا? قد نال القدر الكافي من العلم الشرعي ووصل إلى مرحلة الاجتهاد، بحيث أنه يستطيع النظر في الأدلة الشرعية والترجيح بين أقوال أهل العلم للوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح.
3- سؤال أهل العلم والرجوع إليهم? لأن الفتوى خطرها عظيم، قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)} [سورة النحل، الآية رقم: 116].
قال الشافعي -رحمه الله-: ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم ما نص في الكتاب أو في السنة أو في الإجماع أو القياس على هذه الأصول ما في معناها. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [سورة يونس، الآية رقم: 59](٣).
قال ابن كثير -رحمه الله-: وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة(٤).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) تفسير ابن سعدي -رحمه الله- (ص756).
(٢) تفسير ابن كثير -رحمه الله- (10/ 309).
(٣) جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (2/ 59).
(٤) تفسير ابن كثير -رحمه الله- (7/ 373).